عزيزي ثيو…

كيف كان سيتغير تاريخ الفن بدونك «عزيزي ثيو» الأخ والأنسان وراعي الفن العظيم…

  • هل سمعت يومًا أسطورة الفنان المعذب فان جوخ؟
  • هل سمعت عن أخيه المغمور ثيو فان جوخ إذن؟

تقول الأسطورة أن الفنانين مجانين لا يجدون قوت يومهم ويعانون أمراضًا نفسية تجعلهم أكثر أبداعًا من أمثالهم الأصحاء؛ فان جوخ مثلا!

الفنان الذي باع لوحة واحدة طوال حياته، وقطع أذنه وعانى من الصرع والآكتئاب، وكان غريب الأطوار حتى أن جيرانه كانو يعبرون الشارع عندما يرونه حتى لا يتحدثون معه!

هذا كله غير صحيح بالمرة، المرض النفسي ليس عنصرًا رومانسيًا يؤدي للأبداع ولا الطرد من المجتمع والفقر عاملًا مساعدًا عليه؛ كان فان جوخ فنانًا عظيما رغم ذلك كله وليس بسببه، فلا يجب علينا ترك الفنانين يعانون كي يصبحوا عظامًا بل يجب أن نخفف معاناتهم ونساعدهم مثلما فعل ثيو.

ثيو…

«دعنا نستمر في دعم بعضنا البعض، سعيًا للمحبة الأخوية».

هل سمعت عبارة «عزيزي ثيو» من قبل؟ أخو فان جوخ وراعيه وصديق عمره، عندما نقول أن فان جوخ كان فنانًا عظيما رغم المرض والفقر ف (الرغم) هنا هو ثيو وزوجته جو، وبدونهم كان من الممكن أن يمر فان جوخ على الحياة مرور درويش قريتك الذي لا يعرف أحد اسمه أو من أين أتى وأين يذهب.

«ليس لدي أي أصدقاء باستثناءك، وعندما أشعر بالمرض فأنت دائمًا أول ما أُفكر فيه»

ولد «ثيودوروس فان جوخ-Theodorus van Gogh» بعد فنسنت بأربع سنوات في 1 مايو 1857 في قرية جروت زونديرت في مقاطعة شمال برابانت بهولندا. ابنًا للقس الموقر ثيودوروس فان جوخ وزوجته آنا كورنيليا كاربينتوس.

رغم وجود ستة أبناء في الأسرة إلا أن فنسنت وثيو كانوا مقربين طوال حياتهم لتقارب أهتمامتهم الفنية، حتى أنهما بدأ مسيرتهما العملية سويا في شركة Goupil & Cie الدولية للفنون بمساعدة عمهم.

بداية مسيراتهما الفنية

تم تعيين فنسنت في فرع لاهاي عام 1869، وثيو في بروكسل عام 1873. ومن هنا بدأت مراسلاتهم الشهيرة التي استمرت باقي حياتهم ورُصعت بأسكتشات فنسنت الحية -651 خطابًا- خلدت قصتهم، وتبدأدائمًا ب«عزيزي ثيو» و«عزيزي فينسنت».

تطورت مهنة ثيو في Goupil بشكل جيد وتنقل ين الأفرع المختلفة محققًا نجاحا ملحوظًا حتي أنه كان أصغر موظف في الفرع الرئيسي في باريس عندما أنتقل له.

«أنا سعيد لأننا نعمل معًا في نفس الشركة الآن. (…) أصبح واجبنا الذهاب إلى المتاحف كثيرًا، فمن الجيد أن نكون على دراية بالرسامين القدامى، وإذا حصلت على فرصة للقراءة عن الفن فأفعل، ولا سيما المجلات الفنية…».

لكن فنسنت لم يجد سعادته كتاجر فنون وتمت إقالته من فرع باريس عام 1876 واضطر للبحث عن عمل جديد متنقلآ بين مهن ووظائف مختلفة؛ منها التدريس وأمانة المكتبات وبائع في متجر ثم درس اللاهوت لمدة عام في أمستردام، بعدها عمل كمبشر كنسي في قرية نائية في بلجيكا حيث أعطى كل ما يملك لفقراء القرية وسمي «مسيح مناجم الفحم».

دور ثيو في تفرغ فنسنت للفن أخيرًا

كان التغيير الأكثر أهمية في حياة فان جوخ هو شقيقه الأصغر ثيو الذي نصح فنسنت بأن يتفرغ ليصبح فنانًا. ومع مرور الوقت تولى ثيو دور «الأخ الأكبر الحكيم» وراعي فنسنت الفني.

في ربيع عام 1881 عاد فنسنت للعيش مع والديه في برابانت. ومارس الرسم من ورشه فوق منز أبويه، في هذه الأثناء تم تعيين شقيقه ثيو مديراً لـ Goupil & Cie في باريس. وبذلك تمكن من دعم فنسنت مالياً حتى يستمر في التركيز كُليةً على فنه.

على النقيض من ذلك شعر والديهم بخيبة أمل شديدة لأن ابنهم الأكبر اختار حياة فنان، والتي كانت في نظرهم مرادفًا للفشل الاجتماعي، وبعد نزاع مع والده حول عمله وحياته العاطفية غادر فنسنت منزل والديه مغاضبًا يوم عيد الميلاد عام 1881. ووجد منزلاً جديدًا في لاهاي.

مع أصرار ثيو بدأ فنسنت دراسة الرسم لدى ابن عمه -بالزواج- الفنان الشهير «أنطون موف-Anton Mauve» الذي قام بتدريس فينسنت أساسيات الرسم بالألوان المائية والزيوت، ومع شعور فنسنت المستمر بأن أسلوبه ليس جيدًا بما فيه الكفاية استمر في التدرب بشكل عصبي شبه مرضي يوميًا.

العيش معا في باريس

اقترح ثيو على فنسنت القدوم إلى باريس للتعرف على الفنانين الفرنسيين المعاصريين والاختلاط بالحياة الفنية الغنية في باريس، لكنه أراد العثور على شقة أكبر أولًا، إلا أن فنسنت قرر عدم الانتظار.

«عزيزي ثيو لا تغضب لأني قررت المجئ مبكرًا. لقد فكرت في الأمر كثيرًا وأعتقد أننا سنوفر الوقت بهذه الطريقة. سأكون في متحف اللوفر معظم الوقت على أي حال».

ورغم وفاء ثيو بوعده وتقديم فنسنت للعديد من الفنانين العظام مثل هنري تولوز لوتريك وجوجان ومونيه مما ألهم فنسنت السعي نحو الأنطباعية والألوان الساطعة، ودرسة الأخويين للفن الياباني سويًا مما أثر تأثيرًا بارزًا على أسلوب فنسنت لاحقًا.

إلا أنه سريعًآ ما لاحظ ثيو أن الحياة مع شقيقة ليست سهلة بالمرة فوصف الأمر بأنه «هناك شخصيتين لدى شقيقي؛ أحدهم شديد الموهبة ومهذب ورقيق والأخر أناني وبارد المشاعر».

ثيو عن فنسنت…

«إنه بالتأكيد فنان عظيم، وإذا كان ما يصنعه الآن ليس جميلًا دائمًا، فسيكون بالتأكيد مفيدًا له لاحقًا؛ عندها ربما يكون عمله مهيبًا ، ومن العار أن نقطع دراسته المنتظمة. ومهما كان أسلوبه غير عملي لكنه إذا نجح، فسيأتي بالتأكيد يومًا يبدأ فيه بيع لوحاته» –في خطاب إلى أختهم ويليمينا بتاريخ مارس 1887.

فنسنت عن ثيو…

«إذا لم يكن لدي ثيو، لم يكون من الممكن أن أقوم بإنصاف عملي الفني …» – فنسنت من خطاب إلى أختهم ويليمينا بتاريخ أكتوبر 1887.

في بداية عام 1888 سئم فنسنت حياة المدينة الكبيرة، وترك باريس مستقلًا القطار إلى أرليس بجنوب فرنسا، بعد رحيل فنسنت كتب ثيو إلى أختهم ويليمينا أنه يفتقد شقيقه:

«عندما وصل هنا قبل عامين، لم أعتقد أننا سنصبح مرتبطين بهذا الشكل، الأن هناك فراغًا كبيرًا بعد أن أصبحت أعيش وحدي مرة أخرى»

مستعمرة الفنانين

حلم فنسنت بتأسيس مستعمرة للفنانين في جنوب فرنسا، كان سيعيش ويعمل مع فنانين آخرين في بيتهُ الأصفر في «آرليسArles» في النهاية انضم إليه بول غوغان فقط وكان على ثيو دفع مصاريف سفره!.

كتب ثيو إلى فنسنت من باريس بتاريخ 19 أكتوبر 1888

«قدوم غوغان من شأنه أن يحدث تغييرا كبيرا في حياتك، آمل أن تنجح جهودك في جعل منزلك مكانًا يشعر الفنانون أنه منزلهم».

الأنهيار والجنون

عانى فنسنت فان جوخ من اعراض اضطراب نفسي معظم حياته إلا أن النوبة الأكبر كانت الأنهيار العصبي الذي أصابه مساء 23 ديسمبر 1888، فط أصبح مرتبكًا لدرجة أنه حاول قطع أذنه اليسرى! في صباح اليوم التالي أرسل غوغان برقية إلى ثيو، الذي استقل القطار المسائي إلى آرليس لزيارة شقيقه، ومن هناك كتب ثيو لخطيبته:

«وجدت فنسنت في مستشفى آرليس. أدرك الناس من حوله أنه خلال الأيام القليلة الماضية كان يظهر أعراض المرض الأكثر فظاعة؛ الجنون! ووسط الفوضى الشديدة جرح نفسه بسكين وكان ذلك السبب لاصطحابه إلى المستشفى… هل سيبقى مجنونا؟»

خرج فنسنت من المستشفى في يناير 1889. وقد شفيت أذنه، لكن صحته العقلية ظلت مضطربة مما أدى إلى إعادة ايداعه المشفى خوفًا من حدوث انهيار جديد، ثم أودع فنسنت نفسه مستشفى سان بول دوموسول للأمراض النفسية في سان ريمي في مايو.

جو بونجر

في هذا الوقت عام 1889 تزوج ثيو من «جو بونجر» التي تولت ترويج أعمال فنسنت وتوثيق حياة الأخوين وحدها بعد رحيلهما.

جو بونجر

«أشياء كثيرة في المنزل تذكرنا بك، عندما أجد إبريقًا صغيرًا لطيفًا أو مزهرية يقول ثيو دائمًا: اشترى فنسنت ذلك أو أعجبه ذلك كثيرًا، نادرًا ما يمر يوم لا نتحدث عنك به. هناك أيضًا إحدى لوحاتك معلقة فوق البيانو في غرفة الرسم الخاصة بنا- لوحة كبيرة أحبها كثيرًا – إنها منظر طبيعي بالقرب من أرليس». جو زوجة ثيو إلى فنسنت بتاريخ 8 مايو 1889

رزقا الزوجين بأبنهما في يناير عام 1890، وسميا الطفل «فنسنت ويليم فان جوخ» على أسم عمه، الذي فرح بهذه الأخبار ورسم إحدى أرق لوحاته لابن أخيه الصغير بأسم «تفتح أزهار اللوز» تمثيلًا لازدهارًا الحياة الجديدة.

بداية الأزدهار الفني

في غضون ذلك كان تقدير عمل فنسنت ينمو بشكل متواتر في عالم الفن الباريسي، قدم ثيو عشر لوحات إلى صالون الفنانين (المعرض السنوي المستقل الذي نُظم كرد فعل على الصالون الأكاديمي).

«لا تتصور مدى سعادتي ليتك كنت هناك في معرض الاستقلال (…) لوحاتك في وضع جيد وتبدو رائعة، جاء كثير من الناس يطلبوا مني أن أنقل لك تقديرهم». ثيو إلى فنسنت من باريس 19 مارس 1890.

رحلة فينسنت الأخيرة

غادر فنسنت مستشفى الأمراض العقلية في سان ريمي في مايو 1890 وسافر إلى قرية الفنانين «أوفيرس سور أويز-Auvers-sur-Oise» بالقرب من باريس، وتوقف في طريقه لزيارة ثيو وجو وابن أخيه الجديد العزيز فنسنت ويليم.

«ثم أخذه ثيو إلى الغرفة حيث كان مهد طفلنا الصغير المسمى على أسمهُ، نظر الشقيقان بصمت إلى الطفل النائم بهدوء ورأيت الدموع في عينيهما». جو بونجر من كتاب (رسائل إلى أخيه) 1914

بدا أن الأمور تتحسن، استمتع فنسنت بالرسم في الريف حول أوفيرز ، كما قام بزيارة ثيو وجو وطفلهم الرضيع كثيرًا.

وفي زيارته الأخيرة أوائل يوليو 1890 تلقى خبرًا مقلقًا. كان ثيو يواجه مشاكل في العمل ويتحدث عن أنشاء شركة فنية خاصة به، كانت خطة جريئة لكنها كانت ستؤثر على الوضع المالي لفنسنت.

نهاية الأخوين

في 27 يوليو 1890 توفى فنسنت بطلق ناري في صدره بمسدس، عند سماع ثيو الخبر سافر إلى أوفيرس على الفور وكان حاضراً بجانب فراش موت فنسنت قبل أن يلفظ انفاسهُ الأخيرة.

«اشتقت إليه؛ يبدو أن كل شيء يذكرني به». – ثيو إلى جو ، 1 أغسطس 1890

ثم توفي ثيو في أوتريخت بعد أخيه بستة أشهر أوائل عام 1891..

نشرت زوجته جو كتابًا يجمع رسائل فنسنت إلى ثيو عام 1914 وكتاب رسائل ثيو إلى فنسنت في نفس العام.

الاخوين يستريحون جنبًا إلى جنب في مقبرة الصغيرة وسط اوفريس التي أحبها فنسنت كثيرًا

«هذا ما وصلنا إليه، وهذا الذي يمكنني أن أخبرك به في وقت الأزمة. التجار ممزقون بين بيع لوحات الفنانين الميتين أو الأحياء، وأقول لك مرة أخرى أنني أعتبرك دائمًا أكثر من مجرد تاجر بسيط، فعبري أصبح لك دور في أنتاج اللوحات، فأنت هدؤها وسط الطوفان». رسالة فنسنت الأخيرة الغير مرسلة بتاريخ 23 يوليو 1890.

في النهاية كُن يا صديقي طيبًا كريمًا لأخوانك المرهقين المتعبين من البشر، من يعرف؛ فقد تساهم في صنع فان جوخ أخر، على الأقل حاول شراء لوحات الفنانين الأحياء وليس مطبوعات للوحات الفنانين الميتين، فقد تساهم في أنقاذ حياة أحدهم يومًا أو صنع فنانًا عظيم.

وانتظر المقال التالي لتعرف هل أنتحر فان جوخ حقاً أم قتل؟!..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *